فصل: تفسير الآيات (44- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 49):

{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
مناداة أصحاب الجنة لأصحاب النار لم تكن لقصد الإخبار لهم بما نادوهم به، بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم، و{أَن قَدْ وَجَدْنَا} هو نفس النداء، أي إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم، فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم؟ والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ. وحذف مفعول وعد الثاني لكون الوعد لم يكن لهم بخصوصهم، بل لكل الناس كالبعث والحساب والعقاب. وقيل حذف لإسقاط الكفار عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد: {قَالُواْ نَعَمْ} أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. وقرأ الأعمش والكسائي: {نعم} بكسر العين. قال مكي: من قال: {نعم} بكسر العين فكأنه أراد أن يفرّق بين نعم التي جواب وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل. والمؤذن: المنادي، أي فنادي مناد بينهم أي بين الفريقين؛ قيل: هو من الملائكة {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، والبزي، بتشديد {أن} وهو الأصل. وقرأ الباقون بالتخفيف على أنها المخففة من الثقيلة أو المفسرة. وقرأ الأعمش بكسر همزة {إن} على إضمار القول، وجملة: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} صفة للظالمين، ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم، أو أعني. والصدّ: المنع، أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يطلبون اعوجاجها، أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها، بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هم فيه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان، ما لم يكن منتصباً، وبالفتح ما كان في المنتصب كالرمح، وجملة: {وَهُم بالآخرة كافرون} في محل نصب على الحال. قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي بين الفريقين، أو بين الجنة والنار. والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13].
قوله: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ} الأعراف: جمع عرف، وهي شرفات السور المضروب بينهم، ومنه عرف الفرس وعرف الديك والأعراف في اللغة: المكان المرتفع، وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37].
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم؟ فقيل هم الشهداء، ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد. وقيل: هم فضلاء المؤمنين، فرغوا من شغل أنفسهم وتفرّغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره مجاهد. وقيل: هم قوم أنبياء، ذكره الزجاج. وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وابن عباس والشعبي، والضحاك وسعيد بن جبير. وقيل هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسوادها، حكي ذلك عن ابن عباس؛ وقيل: هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة، واختار هذا القول النحاس.
وقيل هم أولاد الزنا، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل: هم ملائكة موكلون بهذا السور، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، ذكره أبو مجلز.
وجملة: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم} صفة لرجال والسيما العلامة، أي يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها، أو مواضع الوضوء من المؤمنين، أو علامة يجعلها الله لكل فريق في ذلك الموقف، يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء.
{وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة} أي نادى رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم {أَن سلام عَلَيْكُمْ} أي نادوهم بقولهم سلام عليكم، تحية لهم وإكراماً وتبشيراً، أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب.
قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف، والحال أنهم يطمعون في دخولها. وقيل معنى: {يَطْمَعُونَ} يعلمون أنهم يدخلونها، وذلك معروف عند أهل اللغة، أي طمع بمعنى علم. ذكره النحاس. وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مرويّ عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود.
وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة، أي أن أهل الأعراف قالوا لهم {سلام عليكم} حال كون أهل الجنة لم يدخلوها والحال أنهم يطمعون في دخولها.
قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار} أي إذا صرفت أبصار أهل الأعراف تلقاء أصحاب النار أي جهة أصحاب، وأصل معنى {تِلْقَاء} جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوّله غير مصدرين، أحدهما هذا، والآخر تبيان. وما عداهما بالفتح {قَالُواْ} أي قال أهل الأعراف {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} سألوا الله أن لا يجعلهم منهم {ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً} من الكفار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم} أي بعلاماتهم {قَالُواْ} بدل من نادى {مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} الذي كنتم تجمعون للصدّ عن سبيل الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ.
قوله: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}. {ما} مصدرية، أي وما أغنى عنكم استكباركم {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} هذا من كلام أصحاب الأعراف، أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة.
وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم. وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم.
قوله: {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} هذا تمام كلام أصحاب الأعراف، أي قالوا للمسلمين ادخلوا الجنة، فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول. وقرأ طلحة بن مصرف {أدخلوا} بكسر الخاء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا} قال: من النعيم والكرامة {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} قال: من الخزي والهوان والعذاب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على قليب بدر تلا هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السديّ، في قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} قال: هو السور، وهو الأعراف، وإنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن حذيفة قال: الأعراف سور بين الجنة والنار.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في البعث والنشور، عن ابن عباس قال: الأعراف هو الشيء المشرف.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عنه، قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: الأعراف جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يقول على ذراها.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، أنها تلّ بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن جرير، قال: زعموا أنه الصراط.
وأخرج ابن جرير، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم آخر من يدخل الجنة، قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود: أنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يقفون على الصراط.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة نحوه. وكذا أخرج نحوه عنه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر، عن جابر بن عبد الله نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال: «هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ ربّ العالمين من الفصل بين العباد، قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم» قال ابن كثير: وهذا مرسل حسن.
وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الناس يوم القيامة، فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، ويؤمر بأهل النار إلى النار، ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك، فيقال لهم: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوا بمغفرتي ورحمتي».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عبد الرحمن المزني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال: «هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم، فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله، ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم».
وأخرج الطبراني، وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن جرير، وابن مردويه، عن عبد الله بن مالك الهلالي، عن أبيه مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن رجل من مزينة مرفوعاً نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، أنه سئل عن قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} قال: سلمت عليهم الملائكة وهم لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها حين سلمت.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: أصحاب الأعراف يعرفون الناس بسيماهم، أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم، فإذا مرّوا بزمرة يذهب بهم إلى الجنة، قالوا سلام عليكم، وإذا مرّوا بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً} قال: في النار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} قال الله لأهل التكبر {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ}؟ يعني أصحاب الأعراف {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}.

.تفسير الآيات (50- 54):

{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
قوله: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء} الإفاضة: التوسعة، يقال أفاض عليه نعمه، طلبوا منهم أن يواسوهم بشيء من الماء، أو بشيء مما رزقهم الله من غيره من الأشربة أو الأطعمة، فأجابوا بقولهم: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا} أي الماء وما رزقهم الله من غيره {عَلَى الكافرين} فلا نواسيكم بشيء مما حرّمه الله عليكم. وقيل: إن هذا النداء من أهل النار كان بعد دخول أهل الأعراف الجنة، وجملة {الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} في محل جر صفة الكافرين، وقد تقدّم تفسير اللهو واللعب والغرر.
قوله: {فاليوم ننساهم} أي نتركهم في النار {كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} الكاف: نعت مصدر محذوف، و{ما} مصدرية، أي نسياناً كنسيانهم لقاء يومهم هذا.
قوله: {وَمَا كَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ} معطوف على ما نسوا، أي كما نسوا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، أي ينكرونها. واللام في {وَلَقَدْ جئناهم} جواب القسم. والمراد بالكتاب الجنس، إن كان الضمير للكفار جميعاً، وإن كان للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالكتاب: القرآن، والتفصيل التبيين، و{على عِلْمٍ} في محل نصب على الحال، أي عالمين حال كونه {هُدًى} للمؤمنين {وَرَحْمَةً} لهم. قال الكسائي والفراء: ويجوز {هدى ورحمة} بالخفض على النعت لكتاب.
قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} بالهمز من آل، وأهل المدينة يخفون الهمزة. والنظر الانتظار، أي هل ينتظرون إلا ما وعدوا به في الكتاب من العقاب الذي يؤول الأمر إليه. وقيل: تأويله جزاؤه. وقيل عاقبته. والمعنى متقارب. و{يوم} ظرف ل {يقول} أي يوم يأتي تأويله، وهو يوم القيامة {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ} أي تركوه من قبل أن يأتي تأويله {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} الذي أرسلهم الله به إلينا، {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء} استفهام منهم، ومعناه التمني {فَيَشْفَعُواْ لَنَا} منصوب لكونه جواباً للاستفهام.
قوله: {أَوْ نُرَدُّ} قال الفراء: المعنى أو هل نردّ {فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} وقال الزجاج: {نردّ} عطف على المعنى، أي هل يشفع لنا أحد، أو نردّ. وقرأ ابن أبي إسحاق {أو نردّ فنعمل} بنصبهما، كقول امرئ القيس:
فقلت له لا تبك عيناً إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

وقرأ الحسن برفعهما. ومعنى الآية: هل لنا شفعاء يخلصونا مما نحن فيه من العذاب، أو هل نُردُّ إلى الدنيا فنعمل صالحاً غير ما كنا نعمل من المعاصي {قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} أي لم ينتفعوا بها، فكانت أنفسهم بلاء عليهم ومحنة لهم، فكأنهم خسروها كما يخسر التاجر رأس ماله. وقيل خسروا النعيم وحظ الأنفس {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي افتراؤهم أو الذي كانوا يفترونه.
والمعنى أنه بطل كذبهم الذي كانوا يقولونه في الدنيا، أو غاب عنهم ما كانوا يجعلونه شريكاً لله، فلم ينفعهم ولا حضر معهم.
قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} هذا نوع من بديع صنع الله وجليل قدرته، وتفرّده بالإيجاد، الذي يوجب على العباد توحيده وعبادته. وأصل ستة سدسة، أبدلت التاء من أحد السينين، وأدغم فيها الدال، والدليل على هذا أنك تقول في التصغير سديسة، وفي الجمع أسداس، وتقول جاء فلان سادساً. واليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، قيل: هذه الأيام من أيام الدنيا. وقيل: من أيام الآخرة، وهذه الأيام الست أولها الأحد وآخرها الجمعة، وهو سبحانه قادر على خلقها في لحظة واحدة، يقول لها كوني فتكون، ولكنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور، أو خلقها في ستة أيام لكون لكل شيء عنده أجلاً، وفي آية أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}
قد اختلف العلماء في معنى هذا على أربعة عشر قولاً، وأحقها وأولاها بالصواب مذهب السلف الصالح أنه: استوى سبحانه عليه بلا كيف، بل على الوجه الذي يليق به مع تنزهه عما لا يجوز عليه، والاستواء في لغة العرب هو العلوّ والاستقرار. قال الجوهري: استوى على ظهر دابته، أي استقرّ. واستوى إلى السماء: أي صعد. واستوى: أي استولى وظهر، ومنه قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ** من غير سيف ودم مهراق

واستوى الرجل: أي انتهى شبابه. واستوى: أي انتسق واعتدل. وحكي عن أبي عبيدة أن معنى {استوى} هنا: علا، ومثله قول الشاعر:
فأورد بهم ماء ثقيفاً بقفرة ** وقد حلق النجم اليماني فاستوى

أي علا وارتفع. {والعرش}. قال الجوهري: هو سرير الملك. ويطلق العرش على معان أخر، منها عرش البيت: سقفه، وعرش البئر: طيها بالخشب، وعرش السماك: أربعة كواكب صغار. ويطلق على الملك والسلطان والعزّ، ومنه قول زهير:
تداركتما عبساً وقد ثلّ عرشها ** وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل

وقول الآخر:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ** بعتيبة بن الحارث بن شهاب

وقول الآخر:
رأوا عرشي تثلم جانباه ** فلما أن تثلم أفردوني

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة صفة عرش الرحمن، وإحاطته بالسموات والأرض وما بينهما وما عليهما، وهو المراد هنا.
قوله: {يُغْشِي الليل النهار} أي يجعل الليل كالغشاء للنهار، فيغطى بظلمته ضياءه. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي {يغشي} بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف وهما لغتان، يقال أغشى يغشي، وغشي يغشي، والتغشية في الأصل: إلباس الشيء الشيء. ولم يذكر في هذه الآية يغشي الليل بالنهار اكتفاء بأحد الأمرين عن الآخركقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 8]. وقرأ حميد بن قيس {يغشي الليل النهار} على إسناد الفعل إلى الليل، ومحل هذه الجملة النصب على الحال، والتقدير: استوى على العرش مغشياً الليل والنهار، وهكذا قوله: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} حال من الليل، أي حال كون الليل طالباً للنهار طلباً حثيثاً لا يفتر عنه بحال، وحثيثاً صفة مصدر محذوف، أي يطلبه طلباً حثيثاً، أو حال من فاعل يطلب. والحث: الاستعجال والسرعة، يقال ولى حثيثاً: أي مسرعاً.
قوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ} قال الأخفش: معطوف على السموات، وقرأ ابن عامر برفعها كلها على الابتداء والخبر. والمعنى على الأوّل: وخلق الشمس والقمر والنجوم حال كونها مسخرات، وعلى الثاني: الإخبار عن هذه بالتسخير.
قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} إخبار منه سبحانه لعباده بأنهما له، والخلق: المخلوق، والأمر: كلامه، وهو {كن} في قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]، أو المراد بالأمر ما يأمر به على التفصيل، أو التصرّف في مخلوقاته. ولما ذكر سبحانه في هذه الآية خلق السموات والأرض في ذلك الأمد اليسير، ثم ذكر استواءه على عرشه وتسخير الشمس والقمر والنجوم، وأن له الخلق والأمر. قال: {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} أي كثرت بركته واتسعت، ومنه بورك الشيء وبورك فيه، كذا قال ابن عرفة.
وقال الأزهري في {تبارك} معناه تعالى وتعاظم.
وقد تقدم تفسير {رَبّ العالمين} في الفاتحة مستكملاً.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} الآية قال: ينادي الرجل أخاه فيقول: يا أخي أغثني، فإني قد احترقت، فأفض عليّ من الماء، فيقال أجبه، فيقول: {إن الله حرّمهما على الكافرين}.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في قوله: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الماء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} قال: من الطعام.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن زيد، في الآية قال: يستسقونهم ويستطعمونهم. وفي قوله: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} قال: طعام الجنة وشرابها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، في قوله: {فاليوم ننساهم كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} يقول: نتركهم في النار كما تركوا لقاء يومهم هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في قوله: {فاليوم ننساهم} قال: نؤخرهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} قال: عاقبته.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} جزاؤه.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} قال: يوم القيامة.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} قال: ما كانوا يكذبون في الدنيا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: {خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قال: كل يوم مقداره ألف سنة.
وأخرج ابن مردويه، عن أم سلمة، قالت في قوله: {استوى عَلَى العرش} الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود كفر.
وأخرج اللالكائي عن مالك أن رجلاً سأله كيف استوى على العرش؟ فقال: الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الدعاء والخطيب في تاريخه، عن الحسن بن عليّ، قال: أنا ضامن لمن قرأ هذه العشرين آية في كل ليلة أن يعصمه الله من كل سلطان ظالم، ومن كل شيطان مريد، ومن كل سبع ضاري، ومن كل لص عادي: آية الكرسي، وثلاث آيات من الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} [الأعراف: 54] وعشراً من أوّل سورة الصافات، وثلاث آيات من الرحمن. أوّلها {يامعشر الجن والإنس} [الرحمن: 33]، وخاتمة الحشر.
وأخرج أبو الشيخ عن عبيد بن أبي مرزوق قال: من قرأ عند نومه {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} الآية، بسط عليه ملك جناحه حتى يصبح، وعوفي من السرق.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن قيس صاحب عمر بن عبد العزيز قال: مرض رجل من أهل المدينة فجاءه زمرة من أصحابه يعودونه، فقرأ رجل منهم: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} الآية كلها، وقد أصمت الرجل فتحرّك ثم استوى جالساً، ثم سجد يومه وليلته حتى كان من الغد من الساعة التي سجد فيها، قال له أهله، الحمد لله الذي عافاك، قال: بعث إلى نفسي ملك يتوفاها، فلما قرأ صاحبكم الآية التي قرأ، سجد الملك وسجدت بسجوده، فهذا حين رفع رأسه، ثم مال فقضى.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السديّ، في قوله: {يُغْشِي الليل النهار} قال: يغشى الليل النهار فيذهب بضوئه، ويطلبه سريعاً حتى يدركه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: يلبس الليل النهار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {حَثِيثًا} قال: سريعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سفيان بن عيينة، في قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} قال: الخلق ما دون العرش، والأمر ما فوق ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي، عنه، قال: الخلق هو الخلق، والأمر هو الكلام.